الموضوع: الغير والوعي بالذات.
الدرس : الشعور بالأنا والشعور بالغير
إن نفي فكرة الوعي على أنه شيء معطى أدى إلى التأكيد على تاريخية الإنسان والقول بتاريخية الإنسان يحيلنا إلى إشكالية أن الفرد لا يمكنه بناء تاريخه.
فالتاريخ هو من صنع المجموعة والأفراد لا يصنعون التاريخ. والقول بمدنية الإنسان يجعلنا أمام تحديد دور هذا العامل وغيره من العوامل في تحديد وعي الإنسان بذاته كذات مستقلة .
وهنا يتنزل نص الموضوع الذي يؤكد عل دور الغير في تحديد الوعي بالذات، فكيف يساهم الغير في تحقيق الوعي لدى الإنسان؟
ثم هل الوعي بالذات محدد فقط بهذا الغير؟
وأخيرا إلى أي مدى يحقق هذا الغير وعينا بذواتنا؟
إن مجموع هذه الإشكاليات من شأنها إن توضح لنا الطابع الإشكالي في الموضوع ولكن قبل الانطلاق في التحليل لا بد من تحديد الغير فماذا نقصد بالغير؟
الغير هو كل ما موجود خارج عن الأنا. فقد يكون هذا الغير الطبيعة أو بصورة أخرى العالم الخارجي وقد يكون الغير الآخر سواء كان هذا الآخر الفرد أو المجتمع أو التاريخ. فكيف تحدد هذه العوامل الخارجية عن الأنا الوعي بالذات؟ إن الإنسان لا يعيش في فراغ بل تحدده مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية وتتفاعل هذه العوامل فيما بينها لتحقق للإنسان وعيه بذاته. فقد حدد هيغل وعي الذات انطلاقا من جدلية العالم والانا والآخر. فالوعي بالذات عند هيغل لم يتم إلا عن طريق الاغتراب في الطبيعة ويحدد هيغل هذا الاغتراب في انفصال الذات عن الأنا لتصبح بالنسبة لها آخر ثم تغترب في الطبيعة أي تنتج مجموعة من التعابير الثقافية كالفن ، الدين. . . وفي هذه المرحلة تكتشف الذات أنها مغايرة للطبيعة وفي مرحلة ثانية ترجع الذات إلى الأنا.
ويتم إنتاج الفلسفة التي تأتي متأخرة لتعقلن ما سبقها من التعابير ولتضفي على الوجود صبغته الإنسانية ويسمي هيغل اغتراب الذات في الطبيعة بدهاء العقل أو «حيلة العقل عبر التاريخ» ومن هذا المنطلق نقول إن الغير والمتمثل هنا في الطبيعة الخارجية ساهم في تحقيق وعي الذات بذاتها ولم يتم هذا التحقق إلا بعد اكتشاف إن الذات مخالفة للعالم الآخر وحين تم الفصل بين الذات والموضوع .والقول بفصل الذات عن الموضوع يحيلنا إلى القول بأن الذات قطعت كل التفاسير الإحيائية أو الانتروبومورفية للطبيعة وظواهرها وتحرر العقل من سيطرة الخرافة والأسطورة والسحر.
بل إن وعي الإنسان تحقق عبر اكتشاف قوانين الطبيعة واكتشف إنها عبارة عن مجموعة ميكانيزمات داخلية وليست ضربا من الأفضية التخيلية كما كان المعتقد سائدا حولها فأصبحت الطبيعة مع غاليلي "مكتوبة بلغة رياضية" وأصبح الإنسان "سيدا ومالكا لها"، بعد أن كان عبدها إذا فتحول الإنسان من العبودية للطبيعة والعبودية تعني غياب الوعي إلى السيادة عليها وتم ذلك عن طريق العمل . فالعمل حرر الإنسان من الطبيعة وحقق له استقلاليته عنها وأكسبه إنسانيته وبالتالي وعيه .
ومن خلال تحليلنا لمساهمة الطبيعة في تحديد الوعي بالذات تبين لنا أهمية هذا العامل لدى الإنسان ولكن الغير قد يأخذ كذلك بعدا اجتماعيا أي إن الغير يمثل المجتمع فكيف يحقق المجتمع للفرد أو للإنسان بصفة عامة وعيه؟
يقول ابن خلدون "الإنسان مدني بالطبع" ومدنية الإنسان أكدت عليها كذلك الدراسات الانتروبولوجية التي أكدت أن الإنسان خارج إطار اجتماعي هو أقل من الحيوان .
فالاجتماع إذا ضروري للإنسان فما هو تأثير المجتمع على الإنسان؟
بعرف ابن خلدون الإنسان بأنه «ابن مألوفه وابن عوائده" وهنا تأكيد عل الطابع الاجتماعي للإنسان. فالمجتمع يمكن الإنسان من الوعي بل أن وعي الإنسان يتحدد عبر الاجتماع الذي يحقق له إنسانيته . فعن طريق الثقافة يهذب الإنسان من غرائزه ويجعلها وفق متطلبات ذلك المجتمع وبالتالي يحقق التكيف مع مجتمعه والتكيف الاجتماعي يعبر عن اكتساب الوعي فالمجتمع يساهم بدور كبير في تحقيق شخصية الإنسان . فشخصية الفرد لا تتحقق إلا بوجود إطار اجتماعي يمكنها من الوعي بذاتها كذات مستقلة عن بقية الأفراد وفي نفس الوقت تكون تحمل شخصية ذلك المجتمع فكل فر د يحمل الشخصية الجمعية كما عبر عن ذلك دوركايم. ووعي الإنسان يتحدد انطلاقا من الثقافة والحضارة حيث يؤكد فرويد أن الثقافة ضرورية للإنسان اعتبارا من إن الثقافة تحقق إنسانية الإنسان وتجعله كائنا متميزا عن غيره ولكنه يعتبر إن "الإنسان بالفرض والقوة عدو للحضارة» فكيف يتم تجاوز هذه المقارنة؟ إن فرويد يؤكد على ضرورة حسن استعمال الثقافة لان سوء استعمالها يوقعنا في الصراع بين الثقافة والإنسان مما يتولد عنه الكبت والقمع إلا أن هذا الكبت والقمع هو الذي يولد ويصنع الحضارة حسب فرويد ويبرز أساسا في تصعيد ذلك الكبت في انتاجات فنية وإبداعات مختلفة كما بساهم المجتمع في بناء شخصية الفرد التي هي تعبير عن تفاعل بين ما هو فيزيولو جي وما هو بيولوجي غريزي في الإنسان وبين ما هو ثقافي مكتسب وبين المحددات الاجتماعية تتفاعل هذه العناصر فيما بينها لتحدد للإنسان وعيه بذاته داخل إطار اجتماعي وثقافي معين. والثقافة هي خاصية إنسانية إذ أن الثقافة تحدد وتساهم في بلورة وعي الإنسان بذاته بما يضيفه الإنسان عل الطبيعة . الم نعرف الثقافة بأنها «كل ما اضافه الإنسان على الطبيعة» ومن هنا نقول أن وعي الإنسان وشخصيته لا تتحدد إلا داخل المجتمع وكذلك وعي الإنسان يحدده العامل التاريخي فكيف يساهم العامل التاريخي في الوعي بالذات؟ التاريخ هو خاصية إنسانية "فالأسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع ذاته في نفس الوقت الذي يصنع فيه تاريخه" كما يقول ماركس والقول بتاريخية الإنسان يحيلنا إلى القول بتاريخية الوعي لدى الإنسان فوعي الإنسان ليس معطى جاهز موروث بل يكتسبه عبر مراحل الحياة بل إن عقل الإنسان متطور وخاضع للصيرورة التاريخية . وماركس يؤكد أن وعي الإنسان بذاته لا يتم إلا عبر التاريخ . فالتاريخ هو تاريخ صراع الطبقات والوعي يتحدد أساسا من خلال تحديد العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع .
لئن أكدنا مساهمة العوامل الخارجية عن الأنا ني تحقيق الوعي لها فهل هذا يعني أن الذات بمفردها قاصرة عن تحقيق وعيها بذاتها؟ إن نص الموضوع يؤكد إن الغير يساهم في بلورة الوعي للذات ولكنه لا يحقق لها الوعي التام والمطلق بل أن الغير يبلور الوعي بالذات في مرحلة معينة مساهمة منه وليس الوعي الذي يتحقق للذات عبر هذا الغير هو المحدد الأخير بل أن للذات قدرة على تدعيم وعيها بذاتها كذات مستقلة والغير مرحلة ضرورة للذات في بلورة وعيها . فالإنسان في مرحلة أولى يستوعب المحددات البيئية والاجتماعية في ذاته وفي مرحلة ثانية حين يصل إلى مرحلة تخول له النقد والتحقق من مدى نجاعة هذا الوعي الذي اكتسب عن طريق المجتمع أساسا ومن منا تنطلق الذات في عملية نقد وشك في كل الموروث والجاهز ولتصبح الذات هي التي تنتج المعارف. وقد تأكد منذ افلاطون إن الذات هي مصدر الحقيقة ولا يتم الوعي بالذات إلا بالتخلص من كل ما هو سائد وموروث لأنه يخبر عن إيديولوجية معينة كذلك كان مشروع ديكارت في تقويض كل المعارف الجاهزة لتحقيق الذات وعيها بأنها ذات مبدعة خلاقة فاكتشاف الكوجيتو «إنا أفكر إنا موجود» . فالوعي بالوجود حددته الأنا وكل انتاجات الذات عبر التاريخ هو تعبير عن وعي هذه الذات . فاليوم أصبحت تحدد الوعي بمدى رفض الواقع المطموس ومدى وعي الإنسان بضرورة تغيير هذا الواقع بل إن الوعي لا يكفي لتحقيق ما تطلب الذات لذلك لا بد من العمل على التغيير وإيجاد البديل المناسب لهذا الواقع المطموس واقع الاغتراب والاستلاب.
إن التأمل في العلاقة القائمة بين الذات والأخر والغير بمستوياتها المتعددة يلاحظ إن العلاقة تنحوا منحى السيطرة والصراع فهذا المجتمع يقمع كل ثقافة مضادة ويسعى إلى تكريس ثقافة وايديولوحية وهذا ما يجعل الذات في حالة استلاب وغياب عن الواقع كما إن العلاقات الإنسانية اليوم المقامة على المصلحية وعلى الاستغلال فإنها لا تعبر عن الوعي بالذات بقدر ما تعبر عن اغتراب هذه الذات . ففي إطار العمل خاصة العمل بمفهومه في عصر الآلة وعصر السرعة وحين أصبح العمل مفروضا فالعمل هو ظاهرة إلزامية قهرية ومن هنا فقد الإنسان ذاته ووعيه بها حين أصبح العمل أداة استعباد للإنسان وليس أداة تحرر. أصبحنا اليوم نتحدث عن مدى وعي الإنسان وكيف يمكن تحقيق هذا الوعي. فان هذا الوعي قتلته مجموعة الضرورات فحرية الإنسان أصبحت لا تتحدد بمدى وعيه بتلك الحرية بل بمدى ممارستها ني إطار الواقع الفعلي بل أصبحنا اليوم نتحدث عن الحرية بقدر ما نتحدث عن تحرر الإنسان من قيود الضرورة، قيود المجتمع. . . ومهما يكن من الأمر فإننا لا يمكن إن ننكر دور العامل الخارجي في تحقيق وعي الإنسان بذاته قد تكون نسبة هذا الوعي كبيرة أو صغيرة تختلف من مجتمع إلى آخر باختلاف المعطيات التي تتوفر في كل مجتمع ولكن المؤكد أن وعي الإنسان مرتبط بالتاريخ فلا يمكن أن نقول أن الإنسان استطاع إن يحقق مرحلة الاكتمال العقلي بل أن " للعقل بنية متبدلة منذ كان للإنسان تاريخ» عل حد عبارة باشلار ولا يمكن أن ننكر دور الثورات العلمية وانعكاسها عل وعي الإنسان فكل تطور علمي يصاحبه تطور في الوعي لدى الإنسان.