مقالة حول:
طبيعة الذاكرة في مادة الفلسفة
للسنة الثالثة ثانوي
شعبة آداب و فلسفة
هل الذاكرة وظيفة مادية ؟ أم هي وظيفة نفسية ؟
المقدمة :
ينفرد الإنسان عن غيره من المخلوقات بجملة من الملكات الذهنية التي تساعده على تحصيل المعرفة وتحقيق التكيف مع العالم الخارجي ومن بين هذه الملكات الذهنية نجد الذاكرة التي تقوم بحفظ صور الوقائع الماضية واسترجاعها في الحاضر مع الوعي بها من حيث هي وقائع ماضية ونظرا للأهمية التي تكتسيها الذاكرة لدى الإنسان فقد حضيت باهتمام العديد من المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس نتج بشأنها اختلاف في المواقف وتباين في التصورات لاسيما حيال تفسير طبيعتها إذ يعتقد البعض بأن الذاكرة ظاهرة بيولوجية مرتبطة بالبدن في حين يرى آخرون بأنها ظاهرة نفسية خالصة لا علاقة لها بالجسد وفي ظل هذا الجدل القائم يثار التساؤل التالي : ما طبيعة الذاكرة ؟ هل هي ظاهرة مادية من اختصاص الدماغ ؟ أم هي ظاهرة نفسية روحية ؟
العرض: ( محاولة حل المشكلة )
1 - عرض منطق الأطروحة :
يرى أنصار النظرية المادية وفي مقدمتهم تيودول ريبو و رونيه ديكارت وتين بأن الذاكرة ذات طبيعة مادية لا تختلف في وظائفها عن وظائف الظواهر الفيزيائية فهي تمتلك خاصية القابلية للاحتفاظ بآثار الذكريات المسجلة في خلايا الدماغ مثلما تمتلك قطعة الحديد خاصية الانصهار والتمدد والورقة خاصية القابلية للانثناء والطي فالذاكرة في نظرهم تابعة للجسم من اختصاص الدماغ فهي وظيفة يقوم بها الجهاز العصبي وبالتالي فالذكريات هي عبارة آثار مادية مخزنة في خلايا القشرة الدماغية بفعل التكرار إذ يمكن إثارتها مرة أخرى بفعل منبهات الحاضر ( كلمة ، إشارة ، صورة، فكرة ، مكان ... ) وفي هذا يقول ريبو: '' إن الذكريات تخزن في الدماغ وان كل خلية تخزن معلومة معينة " فالمناطق الدماغية في نظر ريبو تتلقى المعلومات عن طريق حاسة السمع فتحفظ بسرعة لكنها عرضة للنسيان بسهولة وإذا أراد الإنسان أن يثبتها أكثر لابد وأن ينقلها إلى مايعرف بالذاكرة قصيرة المدى بفضل الانتباه والتركيز (الوعي) تحفظها لمدة قصيرة وعن طريق التكرار تنقل إلى ذاكرة طويلة المدى و تنقش على الدماغ فتترك آثارا فيه
و هذا مانجده أيضا عند ابن سينا الذي قال : " إنها قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ من شأنها حفظ ما يدركه الوهم من المعاني الجزئية " فنجده يقسم تجاويف الدماغ إلى ثلاث مناطق مقدم وأوسط ومؤخر ، الأول مسؤول عن حفظ صور الأشياء الحسية و الأخير يحتفظ بمعاني تلك الصور أي بالذكريات فوظيفة الذاكرة بهذا المعنى هي الحفظ و التذكر.
و هذا الرأي أيضا نجده عند رونيه ديكارت الذي يقول : " إن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم " والمقصود بذلك هو الدماغ وهذا ما عبر عنه تين بقوله : " المخ وعاء لحفظ الذكريات " وبحسبه أيضا (تين) بأن الذكريات محفوظة في الدماغ كما تحفظ الموسيقى في الأسطوانة وأي تلف مادي يصيب الأسطوانة يتلف المعلومات المحفوظة بها والأمر نفسه ينطبق على الذاكرة فإصابة أي جزء من الدماغ سيؤدي إلى تلف كلي أو جزئي لبعض الذكريات .
و يستند أنصار هذا الاتجاه في تبرير موقفهم على الحجج التالية :
الحجة الأولى : توصل ريبو إلى أن إتلاف خلايا الجملة العصبية نتيجة حادث ما يؤدي مباشرة إلى فقدان جزئي أو كلي للذاكرة وهذا من خلال استناده إلى أعمال وتجارب دولاي عن الفتاة التي أصيبت برصاصة في منطقة الفص الجداري الأيمن (منطقة من الدماغ) نتج عن ذلك فقدانها للمعرفة الحسية اللمسية في الجهة اليسرى فبعد تعصيب عينيها وضع في يدها اليسرى مشط فوصفت جميع أجزائه إلا أنها لم تستطع التعرف عليه وهذا يعني أنها فقدت ذكرى المشط
الحجة الثانية : كما استند ريبو إلى التجربة التي قام بها الجراح الفرنسي جورج بروكا على أحد الحيوانات حينما قام بتخريب منطقة في دماغ الحيوان مسؤولة عن حفظ الذكريات وتثبت تجارب بروكا أن نزيفا دمويا في منطقة التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ يولد مرض الحبسة ( وهو مرض يفقد صاحبه قوة الكلام من غير أن يكون هنالك خلل في أعضاء الصوت ) وأن فساد التلفيف الثاني من يسار الناحية الجدارية يولد العمى اللفظي ( وهو عدم فهم معاني الكلمات ) وبهذا فان الدماغ عند ريبو وعاء للذكريات وأن هذه الأخيرة تشبه الأفعال الآلية أي العادة و هنا يقول : " إن الذكريات الراسخة هي الذكريات التي استفادت من التكرار"
الحجة الثالثة : كما أن الذاكرة ذات أصول مادية مرتبطة بالأجهزة العضوية والدليل على ذلك أن الذاكرة تتعدد بتعدد الحواس إذ هناك ذاكرة بصرية و ذاكرة سمعية و ذاكرة ذوقية ....الخ
الحجة الرابعة : و تثبت التجربة أن اختلال الهضم و دوران الدم والتنفس يؤثر على التذكر إذ هناك بعض المواد المهيجة للجملة العصبية أو المسكنة تنبه الذاكرة أو تضعفها فتناول بعض الأغذية يساعد على تنشيط القدرة على استرجاع الذكريات كتناول السمك الغني بالبروتين أو الموز أو العسل...و هذا ما أثبته العلم الحديث
الحجة الخامسة : كما اعتمد ريبو على حجة واقعية فالواقع يدل على أن الأشخاص المسنين يجدون صعوبة في استرجاع ذكرياتهم الماضية نتيجة موت خلايا القشرة الدماغية لديهم
النقد :
لاشك أن للجوانب العضوية أثر في تحديد طبيعة الذاكرة و تفسير بعض جوانبها غير أن ذلك لا يفسر أن الذاكرة ظاهرة مادية خالصة مستقلة عن الجوانب النفسية فلو كان الأمر كذلك لأدت الإصابات الدماغية إلى فقدان الذكريات بصفة نهائية لكن الملاحظة تثبت أن المصاب لا يفقد ذكرياته بل أن ما يعانيه هو صعوبة في التذكر و الدليل على ذلك أنه قد يسترجع ذكريات أثناء حالة انفعالية وهذا يبطل التفسير المادي للذاكرة . ثم إن الواقع يؤكد أن المرء قد يفقد ذكرياته على الرغم من سلامة المخ وعدم تعرض الدماغ لأي صدمة وهذه الحالة تؤكدها تجربة الطالب أثناء الامتحان حيث يعجز عن استرجاع معارفه رغم سلامة دماغه من أي خلل كما أن التكرار لا يكون في مطلق الأحوال سببا في تثبيت الذكريات ذلك أنه توجد ذكريات لا تتكرر و من شدة وقعها في النفس تصبح ذكرى لهذا قال برغسون عن ريبو بأنه أخلط بين الذاكرة و العادة.
2 - عرض نقيض الأطروحة :
و على النقيض من الموقف الأول يرى أنصار النظرية النفسية و في مقدمتهم الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بأن الذاكرة ترجع إلى خصائص شعورية نفسية فهي عملية نفسية واعية قوامها الشعور وهو ما يجعلها جوهر روحي محض ، حيث يرى برغسون أن الاحتفاظ بالماضي يتم وفق صورتين مختلفتين جوهريا فقد يكون في صورة آلية مخزونة في الجسم و قد يكون في صورة ذكريات نفسية مستقلة عن الدماغ و تسمى طريقة الاحتفاظ الأولى بذاكرة العادة و هي ذاكرة بيولوجية حركية تقوم على أساس البدن و تأخذ شكل عادات آلية تم اكتسابها عن طريق التكرار كالحفظ عن ظهر قلب وأما الصنف الثاني فيسميه برغسون بذاكرة الذاكرة أو الذاكرة النفسية الشعورية وهي ذاكرة نفسية ذات طبيعة روحية مستقلة تماما عن الجسم والدماغ فتقوم بتصوير الماضي واستحضاره بدون إعادة أو تكرار فهي تنقله إلينا في صورة حالات نفسية ومثالها أن حفظ درس يتطلب تكراره عدة مرات بواسطة التسميع الذاتي والتكرار يكسب عادات حركية تساعد على انطباع الدرس في الذهن واسترجاعه يتم بواسطة تلك العادات الحركية غير أن محاولة استرجاع الطريقة التي تم الحفظ بواسطتها و ما صاحب ذلك من ملابسات كالقراءة الأولى نوع الخط الذي كتب به الدرس مكان الحفظ ...الخ هي عملية نفسية و لا تتم بواسطة الآليات الحركية لأن الذاكرة الحركية تعتمد على التكرار أما الذاكرة النفسية فهي نوع من التصور قائم في الزمان وبهذا فالعادة جسمية والذاكرة نفسية ، ويحكم برغسون أن الذاكرة الحقيقية هي الذاكرة النفسية وليست ذاكرة العادة ومنه لما كانت ذاكرة الذاكرة مرتبطة بالشعور و النفس فلابد أن تكون ذو طبيعة نفسية روحية خالصة لا علاقة لها بالجسد المادي حيث يقول :" إن الشعور إنما يعني أولا وبالذات الذاكرة " و هذا ما أغفل عنه أصحاب التفسير المادي للذاكرة لأنهم أخلطوا بين النوعين السابقين واكتفوا بالذاكرة الحركية مهملين الذاكرة النفسية الأهم منها ، ويثبت برغسون هذا التمييز من خلال مقارنته بين خصائص كل نوع فالإصابات الدماغية في الجهاز العصبي لها تأثير على الآليات الدماغية التي تحفظ ذاكرة العادة بينما ليس لها أي أثر على الذكريات النفسية كما أن الاكتساب في النوع الأول يكون بالتدريج والتكرار أما الاكتساب في الثانية فيكون دفعة واحدة وبدون تكرار مثل إدراكنا لحادث مرور مروع ماضي فلا يستدعي تكراره كي يكتسب كذلك قدرة استرجاع ذاكرة العادة مرهونة بمدى تكرارها لهذا يعمد التلميذ أثناء تحضيره لشهادة البكالوريا إلى تكرار المراجعة حتى يتمكن من استرجاعها يوم الامتحان بينما استرجاع الذكريات على مستوى الذاكرة النفسية مشروط بمدى تأثيرها على نفس الإنسان و درجة الألم أو اللذة التي تخلفها الحادثة ، ومن هنا يبدوا الفرق بين هذين النوعين واضحا و هو ما أخفله التفسير المادي الذي ينطبق على النوع الأول فقط بينما حقيقة الذاكرة و جوهرها هو النوع الثاني أي الذاكرة النفسية التي ترتبط بالنفس والشعور و هو ما جعل برغسون لا يميز بين الذاكرة و الشعور حيث يقول: " إن الشعور هو ذاكرة أعني أنه حفظ للماضي في الحاضر و تجمع للماضي في الحاضر"
و عليه فالذاكرة بالنسبة لبرغسون ما هي إلا استيقاظ الشعور من جديد وإحياء للماضي فالذكريات في نظر برغسون موجودة في الفكر ( الأنا العميق ) لذا يقول ڨرنيي : " لما نتذكر ما فعلناه فنحن نراه و نعيشه و نكون في الماضي الذي ندركه بدون واسطة" ويبرر برغسون تفسيره لعملية التذكر بجملة من المبررات المبنية على انتقاده لنظرية ريبو فالدماغ في نظر برغسون أداة لاستحضار الذكريات وليس للاحتفاظ بها وبالتالي إصابة في الدماغ لا يؤدي إلى زوال الذكريات بل إلى ضعف التذكر، و فقدان التذكر في نظر برغسون راجع إلى عدم الإرادة في الاسترجاع و ليس فقدان وزوال الذكريات لأن الذكريات التي لا تظهر موجودة في اللاشعور و الذكريات التي تظهر موجودة في الشعور.
النقد :
فعلا هناك فرق بين الذاكرة العادة و الذاكرة النفسية إلا أن الفصل بين ما هو نفسي وما هو عضوي أمر مبالغ ، كما أن هذه النظرية قللت من دور الدماغ في عملية التذكر وقللت من دور التكرار مع العلم أن ترسيخ وحفظ ذكرى ما متوقف على التكرار بالدرجة الأولى ، كما أن الذاكرة القوية بحاجة إلى جهاز عضوي سليم و مرن ثم أن برغسون قد أنكر وجود الذكريات في الخلايا العصبية و استبعد تماما دور الجسم و المجتمع في تكوين الذاكرة الحقيقية، فضلا عن ذلك فان كانت نظرية برغسون قد فسرت لنا كيفية حفظ الذكريات ولكن كيف نفسر فقدان الذاكرة أثناء تخريب منطقة البروكا الدماغية ؟ و كيف نفسر قوة الذاكرة و ضعفها مع قوة الجهاز العصبي كما هو الحال بين الطفل و المسن ؟
التركيب :
كلا الموقفين السالفين سواء أصحاب التفسير المادي أو النفسي قد اهتموا بجانب واحد من طبيعة الذاكرة مما يجعل موقفهما ذاتي و هو ما يدفعنا إلى التجاوز ونجد التفسير الاجتماعي يقدم طرح جديد تجاوزي حيث يرى هالفاكس أن الذكرى هي حادثة تتكون ثم تخزن وتستحضر في إطار الجماعة فقط فلولا المجتمع لما تم تشكل أي نوع من الذاكرات لأنها في النهاية ما هي إلا حوادث اجتماعية و هو ما يجعل من الذاكرة ذات طبيعة اجتماعية سوسيولوجية حيث يقول هالفاكس : " إن الجماعات التي أنا جزء منها تقدم لي في كل آن الوسائل الكفيلة بإعادة ترتيب هذه الذكريات "
الخاتمة ( حل المشكلة ) :
و من كل ما سبق من تحليل نستنتج أن الذاكرة ليست ظاهرة بيولوجية خالصة و إنما هي وظيفة عقلية و نفسية معقدة يساهم في تركيبها عدة عوامل منها العامل الفردي بأبعاده النفسية و العقلية و البيولوجية و العامل الاجتماعي و ما يتضمنه من أطر و قيم اجتماعية و منه يمكن القول أن الذكريات تتكون بفضل التأثيرات النفسية و المادية و الاجتماعية حيث لا يمكن فصل عامل عن الآخر.