مقال جدلي حول
قيمة الفرضية في مادة الفلسفة
للسنة الثالثة ثانوي
جميع الشعب
إعداد الأستاذ صوالحي
هل الفرضية شرط ضروري في كل بحث تجريبي ؟
هل يمكن الاستغناء عن الفرض العلمي؟ هل صياغة القوانين العلمية بناء عقلي أم إستدلال تجريبي؟
مقدمة: (طرح المشكلة)
إن من الإسباب التي أدت إلى إنفصال العلوم عن الفلسفة و تحقيقها لنتائج موضوعية عظيمة سواء في المادة الجامدة أو الحية هو إستخدامها للمنهج التجريبي الإستقرائي بخطواته الإجرائية الثلاث الملاحظة ،التجربة و الفرضية هذه الأخيرة هي عبارة عن فكرة مسبقة توحي بها الملاحظة للعالم ، فتكون بمثابة خطوة تمهيدية لوضع القانون العلمي ، أي الفكرة المؤقتة التي يسترشد بها المجرب في اقامته للتجربة.و قد شكلت مكانة الفرضية محور جدال و إختلاف في الأوساط الفكرية و الفلسفية حيث أدت إلى ظهور تيارين متعارضين تيارعقلي يرى بأن الفرضية خطوة ضرورية لا يمكن الإستغناء عنها في عملية البحث العلمي و تيار آخر تجريبي يرى بعدم أهميتها و يدعو إلى ضرورة الإستغناء عنها لأنها تعرقل مسار البحث العلمي
أمام هذا الجدال الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو: هل الفرضية خطوة ضرورية في المنهج التجريبي أم أنه يمكن الإستغناء عنها؟ و بصياغة أخرى هل التجريب بدون فكرة مسبقة أمر مستحيل أم ممكن؟
العرض: (محاولة حل المشكلة)
عرض منطق الأطروحة: "الفرضية خطوة ضرورية في لا يمكن الإستغناء عنها"
إن الفرضية خطوة ضرورية في التجريب العلمي. فهي عبارة عن فكرة يحاول ان يشرح بها الباحث تلك الحادثة التي أثارت انتباهه والتساؤل الذي حيره فالظواهر التي يشاهدها العالم في الطبيعة او المختبر تثير فيه أفكار وتصورات معينة تكون الاطار النظري لنسق المعرفة العلمية المتعلقة بالظواهر وهذه الافكار تعد مصدر الكشف العلمي وجوهره. و يمثل هذا الموقف كل من "كلود برنارد ،بوانكاريه ،غوبلو"
و يبررون موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:
إن الباحث لا يقف عند حدود الملاحظة والمراقبة بل يتجاوز ذلك بمرحلة الفهم والتعقل، والعقل الانساني ميال الى الترتيب والتنظيم لذلك تعد الفرضية خطوة مهمة .حيث يقول برنارد "الفرض هو نقطة الانطلاق الضرورية لكل استدلال تجريبي". فالمنهج التجريبي يقوم على ثلاث خطوات هي الملاحظة والفرضية والتجربة ولكن تعد الفرضية أهمها لانها تقود وتوجه التجربة و تعبر عن دور العقل. يقول كلود برنارد :"الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود الى التجربة وتوجهها". فالإنطلاق من التخمين الذي يضعه الباحث في فرضياته يهيئ له الظروف و الوسائل الضرورية التي تساعده في البحث
كما يرى غوبلو أن الفرضية ضرورية في العلم وهي الخطوة المهمة في التجريب فالفرضية هي تجاوز لمعطيات الحواس السطحية و غوص في أعماق الظاهرة لأن الظاهرة الخرساء لا يمكن لها أن تكشف عن نفسها بنفسها إن لم يتدخل العقل و يتجاوز ماهو محسوس إلى اللامحسوس إعتمادا على خياله و إفتراضاته إذ يقول "الفرضية هي قفزة نحو المجهول وهي حل مؤقت يتوقف قبوله او رفضه على ما تؤدي اليه التجربة". و نفس الموقف نجده عند بوانكاري الذي يرى أن الفرضية خطوة ضرورية في المنهج التجريبي لأن الملاحظة السطحية و التجربة الساذجة لا تكفيان لصياغة قانون علمي فالتجريب دون الفرضية أمر مستحيل حيث يقول " كما أن كومة الحجارة ليست بيتا ، فكذلك تجميع الحوادث ليس علما " و يضيف كذلك "إن التجربة دون فكرة سابقة غير ممكن لانه يجعل كل تجربة صعبة" و يرى ويوال ان الحوادث تتقدم الى الفكر بدون رابطة الى أن يجيء الفكر المبدع فيقوم بالربط بينها و تنسيقها يقول في هذا "إن الجواهر موجودة و لكنها لا تؤلف عقد قبل أن يجيء أحدهم بخيط".
وقد حدد "بيفردج" مجموعة من العوامل التي تحفز ذهن المكتشف على الإفتراض و الخيال العلمي ومن بين هذه العوامل ما يلي:- أن يكون العالم واسع الإطلاع في مجال علمه و العلوم الأخرى لأنه كلما إزدادت خبرتنا إزداد إحتمال تمخض أذهاننا عن مجموعات هامة من الأفكار ،فقد تحفز العالم فكرة ما إطلع عليها في أحد العلوم الأخرى على تصور علاقات جديدة للمشكلة التي يهتم بدراستها فمثلا يعود الفضل الكبير في صياغة إنشطاين لنظريته النسبية في إطلاعه على هندسة الألماني "ريمان"، على العالم الأصيل أن يتحرر من التفكير المقيد الموجه بقواعد المنطق و خطواته و أن يطلق العنان للخيال يقول في هذا نيوتن "الخيال أوسع من المعرفة" .
و من الأمثلة التاريخية التي تثبت أهمية الإفتراض هي الأبحاث التي تركها لنا العالم السويسري هوبير فرغم أنه كان أعمى إلا أنه كان لديه خيال واسع جعله يفترض مجموعة من الأفكار و يطلب من صديقه التجريب عليها و أغلبها أصبحت قوانين .وهذا تاكيد على ان الفرض خطوة مهمة للبحث العلمي.
نقد و مناقشة:
رغم الدور الذي تلعبه الفرضية في عملية الكشف العلمي بحكم أنها تعبر عن دور العقل إلا أن إعتبارها الخطوة الأهم و الأساس في المنهج التجريبي أمر مبالغ فيه فهي تبقى مجرد تكهن لا قيمة له إذا لم تثبته التجربة كما أن إعتماد الباحث على خيالاته و إفتراضاته بشكل مطلق قد يبعده عن حقيقة الظاهرة و يغير مسار البحث العلمي لذلك فالفرضية خطوة ثانوية غير ضرورية يجب إستبعادها.
عرض نقيض الأطروحة: "الفرضية خطوة غير ضرورية يجب الإستغناء عنها"
إن الفرضية خطوة غير ضرورية في البحث العلمي لأنها تقوم على خيال الباحث في تصور الحل ، وأن الخيال يشكل عائقا في وجه الباحث ، مما يشكل عائقا في البحث العلمي ، و عليه فلابد من استبعاد الفرض لأنه مخالف للعلم باعتباره انه يقوم على التكهن والظن في حين أن العلم قائم على التجربة و اليقين و يمثل هذا الموقف كل من "بيكون ، ماجندي ، جون ستيوارت مل"
و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج و البراهين الآتية:
إن إستعمال الفرضية في عملية الإستدلال التجريبي له إنعكاسات سلبية على نتائجه لأنها خطوة سلبية لها خصائص تعاكس تماما مميزات العلم و أهدافه فهي حكم مسبق يضعه الباحث كتفسير للظاهرة العلمية ولكن هذا التفسير يكون ذاتي اذ انه كثيرا ما يبعده عن الموضوعية وبذلك تكون نتائج بحثه مشكوك فيها وكثيرا ما تكون خاطئة ولا توصله الى نتائج يقينية. فمثلا إذا وضع العالم فرضية لتفسير حادثة ما ووضع وسائل التجربة وفقا لما تمليه عليه الفرضية فسيمشي في سياقها وبذلك سيحاول اثباتها دون غيرها وبهذا فهو يفرض على نفسه هذا التفسير ويكون تفسير ذاتي وممكن خاطئ لان اهم شروط البحث هي الموضوعية.كما أن العلم يهدف إلى التعبير عن نتائجه و قوانينه بصيغ و رموز رياضية و الفرضية لا علاقة لها بالعلم لإستخدامها للغة العادية لذلك يجب الإستغناء عنها ،فالتجريب هو الخطوة الضرورية والمهمة في المنهج التجريبي ،وهي تجعل الباحث في غنى عن الفرضية وهي المعيار الوحيد لصحة المبادئ وبها يصل الى نتائج علمية. فالقول بضرورة الخيال و الإفتراض هو دعوة إلى العودة إلى مرحلة التفسير الميتافيزيقي الغيبي الذي كان سبب في تخلف الإنسان لذلك يرى بيكون بضرورة الإستغناء عن الفرض و الإكتفاء بالتجريب فقط حيث يقول " التجربة أحسن الأدلة" كما نذكر في هذا السياق ذلك الخطاب الذي وجهه ماجندي لتلميذه كلود برنارد الذي كان يتميز بسعة خياله حينما قال له " أترك خيالك و عباءتك عند باب المخبر"
كما يعتبر الفيلسوف جون ستيوارت مل الفروض جزء من التخمينات العقلية لهذا نجده يحاربها بشدة ، حيث يقول فيها " ان الفرضية قفزة في المجهول وطريق نحو التخمين ، ولهذا يجب علبينا أن نتجاوز هذا العائق وننتقل مباشرة من الملاحظة الى التجربة " و يقول كذلك "ان التجربة تغني الباحث عن كل فرضيات العالم" وقد وضع من أجل ذلك قواعد سماها بقواعد الاستقراء هي : طريقة الاتفاق أو التلازم في الحضور ونصها : إن وجود العلة ستلزم وجود المعلول وطريقة الاختلاف أو التلازم في الغياب ونصها أن غياب العلة يستلزم غياب المعلول ثم طريقة التغير السلبي أو التلازم في التغير ونصها أن تغير العلة يستلزم تغير المعلول و أخيرا طريقة البواقي ونصها العلة الباقية للمعلول الباقي. وهذه القواعد حسب "مل " تغني البحث العلمي عن الفروض العلمية . ومنه فالفرضية حسب النزعة التجريبية تبعد المسار العلمي عن منهجه الدقيق لاعتمادها على الخيال المعرض للشك في النتائج و هذا الذي دفع العالم نيوتن يصرح قائلا " أنا لا أصطنع الفروض "
نقد و مناقشة:
رغم صحة ما نادى به الإتجاه التجريبي إلا أن رفضهم المطلق للفرضية مبالغ فيه فإلغاء الفرضية هو إلغاء لدور العقل فإستقراء تاريخ العلماء و العباقرة يثبت أنهم تميزوا بقوة الذكاء و سعة الخيال و أن الجانب الحسي مثل دور ثانوي عندهم كما أن نيوتن لم يرفض الإفتراض بشكل مطلق ,و إنما نوع معين وهو الإفتراض الميتافيزيقي أما طرق الاستقراء فقد وجهت لها الكثير من الانتقادات لذا أعلن باشلار " إن البحث العلمي صحيح يتنافى مع هذه الطرق التي تعيده إلى عصر ما قبل العلم"
التركيب:
لا يجب التقليل من قيمة الفرضية فبدونها لا يقوم أي نشاط عقلي فالتجريب بدون فرض مسبق يؤدي إلى المخاطرة و تشتيت البحث العلمي، ولكي يؤدي الفرض العلمي في المنهج التجريبي يجب أن يستوفي الشروط التالية من الملاحظة والتجربة العلميتين كما يجب أن يكون قابلا للتحقيق بالتجربة وان يكون خاليا من التناقض و التعارض مع حقائق ثابتة أكدها العلم يقول برنارد : "إن الذين أدانوا استخدام الفروض أخطئوا بخلطهم بين اختراع التجربة وعاينت نتائجها ... فمن الصواب أن يقول أن يجب علينا معاينة التجربة بروح مجردة من الفروض ،ولكن لابد من الفرض عندما يتعلق الأمر بتأسيس التجربة بل على العكس هنا لابد أن نترك العنان لخيالنا " .
خاتمة ( حل المشكلة ) :
وبعد التحليل نستنتج أن الفرض العلمي يبقى المسعى الأساسي الذي يعطي المعرفة العلمية خصبها ،وكما اعتبره كلود برنارد نقطة بداية لكل بحث تجريبي باعتباره أمرا عفويا يندفع إليه العقل البشري بطبيعته ، وتعبير عن عبقرية الباحث وقدرته على تجسيدها في شكل قانون علمي ، وعليه فالفرضية ضرورية لا يمكن إنكارها أواستبعادها من البحث التجريبي. سواء ثبت صحته أو لم تثبت لان الفرض الخاطئ سيساعد على توجيه الذهن إلى فرض خاطئ وهكذا حتى نصل إلى الفرض الصحيح الذي يبنى من خلاله القانون.